يعد الشعر الكردي لسان حال أمة ووعاء تاريخيا يحمل ما مرّ على هذا الشعب من أحداث وقصص، وله جذور ضاربة في القدم، فيتألف الجزء الأعظم من بدايات الشعر الكردي من ملاحم بطولية و قصص تصف البطولات و مكارم الأخلاق مستحضرين الفولكلور والثقافة الكردية الشفاهية ، سنمر هنا على محطات الشعر الكردي المدوّن ونزور فيها أبرز رواده لربّما تكون بطاقة دعوة لطلبة الجامعات ومَن يحضّرون رسائل الماجستير والدراسات العليا لكي يتطرقوا ويكتبوا في رسائلهم عن الشعر الكردي ، على الرغم من أصالة العمل الذي يقدمونه وارتباطه بالأرض والجذور والإنسانية بشكل عام.. إنها مجرد بقعة ضوء صغيرة لأبرز تحولات هذا الفن نقدم فيه موجزا صغيراً عن الشعر الذي يعتبر أبرز حامل لغوي أساسي للتاريخ الكردي وثقافته، كما سنتطرق إلى بعض أعمدته ومراحل تطوره وأتناول فيها تجربتهم.

تُنسب جذور الشعر الكردي إلى الشاعر بابا روخ همداني الذي توفي عام 841 مبلادية الذي يُعد أول شاعر ألف شعرا بلغته الأم الكردية يقول في إحدى نصوصه الثائرة والتي تدعو الشباب إلى مواجهة عدوّهم " حمل أسلحة باترة \ ومهاجمة العدو كالأسود \والانتصار عليه \ لتكون بلاد الكُرد \ ربيعا خالداً، بالإضافة إلى نصوصه القومية كان الشعراء الكلاسيكين ينحون إلى الاتجاه السائد والمزاج الصوفي الذي كان مسيطرا على الشعر الفارسي والعربي، وكان من بينهم العلّامة علي ترماخي (935- 1010) الذي وضع كتاباً في النحو والصرف العربي باللغة الكُردية. وكان ترماخي شاعراً ورحالة يجوب البلدان ، مما أهّله إلى كسب معرفة واسعة وعقلاً ثقافياً راشدا، كما كان شاكيا في قصائده من حال الدنيا زاهدا في دنياه يقول في إحدى نصوصه " آه كم شقى الفلاح ومضى \ على هذه الأرض بذر الحبوب وانتظر \ وعندما أينعت سنابله لم يلقَ فمه ( بالإشارة إلى موت الفلاح )، ونجد في هذا النص ما يتقاطع كثيرا مع الشاعر الهندي زوق في إحدى قصائده "غزل " التي تحمل نفس المعاني والشكوى في القرن السابع عشر الميلادي.

ويعتبر (بابا طاهر الهمداني ولد عام 1010م) أول شاعر كُردي دوّن رباعيات شعرية كُردية ويعتبره البعض أب الشعر الكردي وتراوحت أشعاره ما بين الغزل والشكوى والحكمة. وكان بابا طاهر عالماً ومتصوفاً كبيراً، عكست أشعاره هذه النزعة الدينية العميقة لديه. كما يعدّ أول من كتب الشعـر في الأدب الإيراني المدوّن على مدى تاريخه، وهذه الحقيقة يقـرّ بها الإيرانيون الفرس أنفسهم ، بل ويعتزون بذلك إلى الدرجة التي عصفت بها رياح التعصب القومي والنزعة الذاتية برؤوس الكثير من مؤرخيهم إلى إنكار كوردية اللور، وتنسيب هذه الجماعة الكوردية بأسرها إلى الفرس والترويج لذلك ولسانُ حالهم يقول: "لو أننا سلّمنا بكوردية بابا طاهر فإن هذا يعني أن الأدب الإيراني كوردي في أساسه!". وهذا بالطبع ما يستحيل على عامة المثقفين الإيرانيين الفرس تقبله ناهيك عن عوامهم. على عكس ما أكّده الجغرافي المعروف ياقوت الحموي بمؤلفه معجم البلدان بكردية شعب اللور الذين يقطنون بقرب أصفهان.
وعاصر الشاعر بابا طاهر الهمداني العديد من الشاعرات الكرديات من أبرزهن جلاله خانم لورستاني التي نظمت قصائدها على شكل رباعيات تقول في إحداها : يا معشر الأحبة، شاركوا البلبل بكاءه لفقدان عبير، ألا أيها البلبل الغرِّيد !، أنا الوردةُ، جئتكَ مجددةً العهدَ بتزويجكَ من عبير.

كما يعد الكثير من المؤرخين الشاعر علي الحريري (ولد 1009م) كأول المؤسسين للشعر الكردي، وهو من بلدة حرير التابعة لمحافظة أربيل. و لحريري ديوان زاخر بالأشعار الجميلة فكتب المثنويات الشعرية والرباعيات قبل عمر الخيام، كما رافق بدايات الشعر الكردي في مطلع القرن الحادي عشر مجموعة من الشاعرات الكرديات أيضا أمثال ريحان خانم لورستاني و لزا خانم جاف، ودايه خه زاني سَركًتي.

نسج هؤلاء الشعراء قصائدهم بلغة رصينة وسليمة متمكنين من البدائع والزخارف وأدواتهم الشعرية مما يدفع الباحث للسؤال عن هذا التألق الأدبي الذي لا يأتي إلا عبر مخاض طويل و جذور ممتدة، كما كتب معظم هؤلاء الشعراء قصائد الملمعات التي تتألف من عدة بيوت شعرية بحيث يكون صدر البيت بالكردية والعجز بلغة معينة وينبع ذلك من حرصهم على تقديم نتاج يصل إلى أكثر من شعب ناهيك عن إجادتهم اللغات التركية والعربية والفارسية، وربّما سَبق هؤلاء الشعراء الشاعر الهندي أمير خسرو في القرن الثاني عشر الذي كتب بالأردية والفارسية والبرجية ومضى على منوال هؤلاء الشعراء .

هذا على صعيد البدايات،،، 

و على النقيض من قصائد الشعراء الكورد في تلك الفترة التي اتسمت وغلبت علها الصبغة الدينية وإن كانت لا تخلو في شعره ، أحدث فقي تيران (ت 1375م) ثورة في الشعر الكردي وكان شاعراً مهماً جداً في الثقافة الكُردية في هذه الحقبة وكانت أشعاره على عكس تلك المرحلة مناهضة للملوك والبلاط، اتسمت حياته أنه كان شاعرا متجولا بين مدن وقرى متعددة شاكيا من غربته يقول في إحدى نصوصه " ايه أيها الشعر ماذا فعلت بي حملتني على الرحيل والغربة" في شعره أعلى صوت هو صوت الإنسان ويغلب عليه الطابع الدرامي والحواري و تميل قصائده إلى اللغة الحوارية الموزونة مع الطبيعة تارة بينه وبين نهر دجلة وأخرى مع الحصان الأسود، إلى جانب الدعوة إلى الحب والانتصار بالإرادة، كما يعد من مؤسسي الشعر الكلاسيكي الكردي فكتب الشعر القصصي والملحمي بإطار كلاسيكي. له (أشعار فقى تيران)، ، كما جمع العديد من القصص الشعبية في كتابه على لسان الحصان الأسود. وكتب أيضا كتاب من الآية الصوفية، قصة شيخ صنعان وأخرى. 

ويقف إلى جواره الشاعر ملا باتي أحمد (1417 ـ 1492م) شاعراً مهماً، الذي له ديوان في قصة مولد رسول الإسلام محمد ( ص)، كما يعد أول من كتب وابتكر في الأسطورة بالأدب الكردي القديم، ومزج بين اللغة الأدبية الرصينة وبين كلام العوام، كما في ديوانه ( بائع السلال )، مستخدما الميزان الثُماني الشعري والذي يقارب وزن بحر الرَّجز ولكن بثمان تفعيلات، ", مازجاً بين العربية و الكوردية والفارسية وشيئاً مُختارا من اللغةِ التركية , ليخرج برائعةٍ كان لها الشأنُ في إغناء الشعر الكوردي.

 

" أيها القلب تعال و هي \وكونا لنهر الحبّ هذا فيضان\ واشربا معاً لمرةٍ كأس راح

ولتكن هذي قصةُ بائع السلال \ وإليكم الحكايةُ......كان يا مكان \ شابٌ في ربيع العمر كان هذا بائع السلال

يترتب عليه الكثير \ فهو ذو كلفةٍ وأهلٍ و عيال \ كانَ ذا جمالٍ يوسفيٍ....جمال \ يبتغي رزقهُ......و الحق يُقال "

وبعد حقبة من الزمن يطل علينا اسم من ألمع أسماء الشعراء الكورد، ألا وهو ملاي جزيري عالم ومتصوف ديني كُردي، من جزيرة بوتان الواقعة في كردستان تركيا، حفظ القرآن منذ صغره ودرس علوم الشريعة والحساب والفلسفة. و يحتوي ديوانه على إحدى وعشرين قصيدة بعد المئة، يغلب عليه طابع الغزل والعرفان والفلسفة، وتم ترتيب الديوان كالعرف الدارج حينها بين الشعوب باب الألف وباب الباء إلى أخره، كما امتاز شعره بتذييل البيت الأخير في القصيدة باسمه خوفا من ضياع القصيدة أو نسبتها إلى شاعر أخر، كان الملاي جزيري بارعا في قصيدة الملمعات ويتقن التركية والفارسية والعربية إضافة إلى الكردية، ويشبه إلى حد كبير المتنبي وخاصة ف قصائده التي يعتز بها بنفسه، ويبدو في مقطع القصيدة التالي فيه المزج بين العربية والكردية والفارسية حيث يبدأ صدر البيت باللغة الكردية ليكون العجز بالعربية ويعود للكردية ثم الفارسية: 

Heyata dil meya baqî Binoşîn da bi muştaqî 

» ألا يا أيها الساقي أدر كأسا وناولها" 

Dizanî rûd û ʼûd ewwel Çi tavêtin surûd ewwel 

»كى عشق آسان نمود أول ولي أفتاد ئى مشكلها«

كما للأمانة الأدبية استخدم ملاي الجزيزي التناص الشعري فوضع شطر الشاعر الفارسي حافظ شيرازي بين قوسين ، كما أورد اسمه في البيتين الأخيرين حافظ شيرازي، مستخدما بدائعه اللغوية باللغتين الكردية والعربية من طباق وجناس : 

Ji Hafiz qutbê şîrazî Mela fehm er bikî razî 

Bi awazê ney û sazî Bibî ber çerxê perwazî 

تُزد من حبها الصفوى به أهل الهوى نشوى

" متى ما تلقى من تهوى دع الدنيا وأهملها "

أقحم الشاعر ملاي جزيري كلمات عربية وفارسية وتركية ضمن السياق الشعري الكردي ووظفها بطريقة تُحافظ على موسيقاها وتُخرجها من بنيتها التقليدية دون أن يخرج عن فضاء ثقافته وبيئته الكردية : 

Dîsa ji nû bêhal e dil Saqî werîn cama zucac 

Muştaqê xemra al e dil Lê xweş-i anîbit mizac

Bê nûr û narê muhbetê Bê neqş û sun'ê qudretê

 Naçîn meqamê wesletê Nûrun lena we- l-leylu dac

Ev narê sîqala dil e Da'im li wê qala dil e  

 Newroz û sersala dil e Weqtê hilêtin ew sirac

استخدم ملاي جزيري نمطا جديدا بالقصيدة الكلاسيكية فكان يبدأ في بعض قصائده بافتتاحية مكوّنة من بيتين لهما نفس القافية والوزن وتختلف عن باقي القصيدة التي تتوحد بقافيتها، وعادة ما يكون مطلع القصيدة غزليا. وتتكون مفرداته من استعارات وكنايات شاعرية كأن يشبه قلب المحبوبة بعش الطير أو سخرية القدر بالرعد أو المعشوقة بالعندليب.

كما كان منفتحاً على المشاهد الشعرية السائدة في حينها، فاستخدم الموشح وخاصة الزنجير المكون من خمسة مقاطع، والقافية الحرة المقطعية إلى جانب الرباعيات، وميله الواضح إلى البحور الصافية وبعض البحور الكردية الصرفة كتفعيلات " فاعلاتن فاعلاتن مستفعلن " ونجد أن هذا البحر يسمى لاحقا في شعر الأوردو بالبحر الجديد، ومن اطلاعي على ديوان الشاعر الهندي ميرزا غالب أجد قواسم مشتركة بينه وبين الملاي الجزيري في طريقة الوزن والغرض الشعري. وإن قارناها بالبحور العربية نجد بحر الهَزَج والرَجزَ يتألف كل شطر منهما في الشعر الكردي من أربعة تفعيلات وهذا يعود إلى خصوصية تركيبة الجملة الكردية فالألفاظ تتواكب في وحدات ترنيمية بسياق ايقاعي سريع تسد الحاجات الوجدانية . 

Çehvên belek qewsên helek Çerx û felek xalib melek

في حبّها عمري دَلَك والحب يجري في عَجَاج

وفي القرن السابع عشر يعتبر الشاعر أحمدي خاني من أعظم شعراء الكُرد على مرّ التأريخ ويلّقب بأمير الشعراء وكان يتقن العربية والفارسية والتركية. فخاني ألّف في غضون خمسة عشر عاماً ملحمته الشهيرة (مم و زين) في ألفين وستمائة وستة وستين بيتاً من الشعر التي تعتبر بدايات الشعر الرومانتيكي الكردي. كما ألّف (الديوان) الذي يحتوي على قصائد متنوعة. وله أيضاً (ربيع الأطفال) في مائتين وستة عشر بيتاً، وألّف (عقيدة الإيمان) في سبعين بيت شعري، وهو ديوان تعليمي في علم الكلام والعقيدة الإسلامية، وله الربيع الجديد وهو ديوان شعر، إلى جانب قاموس عربي كردي بعنوان نوبهار.

يذكر خاني بملحمته أساطين الشعر الكردي الكلاسيكي من أمثال الحريري و الجزيري و فقي طيران، ليوثق أسماء الأجيال التي سبقته ويؤرخها شعراً، يقول خاني:

 لرفعتُ راية الشعر في أعالي السماء \ وبعثتُ روح (ملي جزيري) \ و أحييت بها ( علي حريري)

و أبهجتُ (فقي طيران) \ كي يبقى مشدوها إلى الأبد

ويبدو تأثير خاني ممتداً ليس فقط على الشعراء الكورد إنما تجاوز ذلك ليصل إلى الشاعر الروسي ميخائيل ليرمنتوف ويبدو ذلك جليّا في مقطع شعري له في قصيدة بعنوان" ديمون – الشيطان " على حسب رأي عدد من النقاد من بلاد القفقاس وأنها مستوحاة من مقطع شعري لزين وهي تخاطب حبيبها مم في ملحمته مم وزين.
كما ظهر في القرن السادس عشر شعراء عدة من ابرزهم، إسماعيل بايزيدي ( ولد عام 1689م) وله ديوان (كَولعوزار)، فضلاً عن قاموس ألّفه في اللغات الثلاث الكُردية والعربية والفارسية، وكتابه (عادات الأكراد) الذي كان له الأثر الفعال جداً في تطور الأدب الكردي وتقدمه، وإلى جانبه يُعتبر الشيخ مولانا خالد النقشبندي (1773 ـ 1826م) مُلهم الشعراء،.
في القرن الثامن عشر تأصل العصر الرومانتيكي في الشعر الكردي فنجد أسماء كالشاعر نالي (الملا أحمد خضر الميكائيلي 1800 ـ 1856م) بشعره الغارق في غاية البلاغة والعمق الفلسفي، والتصوير المنساب من الخيال إلى الواقع. وكان بحق من أشعر شعراء الكُرد الغزليين. وحسب رأي بعض النقاد (منهم عرب) استطاع "نالي" أن يتخطّى من حيث البلاغة الشاعر العربي (أبو تمام) وخاصة في الجناس والتورية والاستعارة.
في بيت شعر له : "فداكِ روحي أنخلةٌ أنتِ أم رُطب ـ حلوةٌ ذات صدرٍ ناعمٍ وقلبٍ قاسي".

وعاصر نالي صديقه سالم صاحيب قران ، وكان شاعراً كبيراً (1805 ـ 1869م). ومن ثم كان هناك الشاعر كوردي (1812 ـ 1850م). هؤلاء الثلاثة الذين سمّوا في الأوساط الثقافية الكردية بـمثلّث بابان، ويقف إلى جانبهم الشاعر مولوي (1815 ـ 1892م(، والشاعر القومي الحاج قادر كويي (1815 ـ 1892م) . والملّا محمد عثمان البلخي (شاعر الفلسفة والعرفان 1820 ـ 1904م)، وكذلك بيره ميرد (1876 ـ 1950) ذي النزعة الفلسفية والمعرفية، و تبرز فيه الرؤية التاريخية الأدبية التي عكست المراحل الأساسية للتطور الفني للأدب الكردي، كما أهتم بالأدب الشفاهي الشعبي وجمع الحكم والأمثال الشعبية وصاغها شعراً. كما استهدفت نصوصه الأطفال أيضا.

ومع نشوء حركة الصحافة والطبع (أول جريدة كُردية تأسست في عام 1898م على يد مدحت بك بدرخان بسم كُردستان)، انتشرت النتاجات الثقافية شأنها شأن باقي الأمم، وساهمت في نشر الوعي الثقافي والأدبي بين الشعب الكُردي. وتأسست عشرات الصحف والمجلات نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين،.

وفي مطلع القرن العشرين، بدأت مرحلة الشعر التنويري مع ثلة من الأسماء اللامعة التي استلهمت الشعر الحر من الأدب الغربي ولاسيما الشعر الفرنسي الذي أُحسن توظيفه في اللغة الكردية. وأيضا طرأت الحداثة على الناحية الظاهرية، بعدم التساوي في طول الأشطار وعدم تكرار القافية في مواضع يحددها النظام التقليدي مسبقاً، 

و يفتتح عصر الكتابة الحديثة الشاعر عبدالله گوران (1904-1963م) شاعرًا تجديديًّا في هذه الفترة، و أيضاً ولدت الدراما الشعرية على يديه في ديوانه الوردة المضرجة بالدم، والعروس غير السعيدة.

والشاعر قدري جان الذي أتقن الفرنسية والكردية والذي قدّمه المترجمون على أنه كتب قصيدة النثر؛ فهو بالإضافة إلى قصيدة النثر كان على دراية بالأوزان الشعرية الفرنسية التي تعتمد على وحدة المقطع فاستخدم هذا الشاعر الوزن الفرنسي في قصائده، و ساهم تعرفه على الادب الفرنسي بفتح طرق جديدة وشغل ذهنه بأنماط وتجارب غير مسبوقة. 

هنا طرأ الانقسام على الشعر الكوردي التقليدي، فرسى شطر منه رصيناً فخماً زاخراً بالفنون الأدبية الكلاسيكية والصناعات البلاغيـة والبديعية لكنه بعيد نوعا من المجتمع وأحوالـه، في حين ظهر الشطر الآخر مفعماً بالحركة والتوثب والواقعيـة والانسداد الى عامـة الجماهير رغـم بساطته وخلـوّه مـن صناعات البديع والبلاغـة الادبية المألوفة.

ولمعت عدة أسماء في تلك المرحلة نجد (هيمن وهجار) هما شاعران كبيران من كُردستان إيران. والكُرد في القسم الإيراني يشتهرون ببراعاتهم الفنية والأدبية. كما قام هجار بترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الكُردية ولا معلومات عندي إن كانت ترجمة لفظية أم تفسيرية. 

و خرج شعراء عباقرة في هذا الوسط الثقافي، مثل أحمد مختار بك الجاف (شاعر الغزل والوجدان والحماس القومي1897 ـ 1935م)، وشيخ رضا طالباني (شاعر الهجاء المشهور)، وفائق بيكَه س والد الشاعر شيركوه بيكه س ومخلص، وصافي، وحمدي، وقانع، ودلدار مؤلف النشيد القومي الكردي، الذي تحتل المواضيع الرومانسية مكاناً واسعاً في مؤلفاته ولاسيما الطبيعة، ويظل الحب يشغل الصدارة منها.. حيث كانت أدوات الشاعر الفنية غنية ومختلفة الألوان، فقد كتب الشعر الكلاسيكي والحديث واستخدم الأوزان المتعددة في قصيدة واحدة، وأغنى المفردات الكردية الشعرية التقليدية، ومن نفس الجيل ظهر هيدي، وهردي، وجروستاني، وعصمان صبري وحامد بدر خان وعشرات الشعراء والمثقفين، الذين أغنوا بنتاجاتهم هذا الزخم الثقافي الغني حقاً.
ومن ألمع الأسماء في هذه الفترة يبرز اسم الشاعر تيريج وكانَ حبُّ تيريج لطبيعة كردستان الأثر الواضح في أشعارهِ وكتاباتهِ، فكثير من أشعارهِ وكتاباتهِ كانت تحكي عن جمال طبيعة كردستان، وثلاثة من دواوينه كان تحمل عناوين جبال كردستان وهي “خلات، زوزان، جودي”، كما كتب عن معاناة الشعب الكردي بكثرة أيضاً، ولعل الاسم الأبرز في حمل عبئ القضية الكردية على كاهله كان الشاعر جكَرخوين في سوريا الذي يعتبر أبرز الشعراء المعاصرين الذي يكتب القصيدة الكلاسيكية والتفعيلة والشعر الحر والنثري وكان يذيل خاتمة القصيدة باسمه، وتتصف أعماله بالبساطة وصفاء المحتوى ضمن لوحات معبرة وبهيجة عن الحياة الواقعية اليومية، إلى جانبه نجد عرب شمو في روسيا رائد الرواية الكردية والشاعر حجي جندي الذي يعتبر من رواد المسرح الشعري الكردي وتعتبر مسرحيته علبة الادوية عام 1933 من أوائل المسرحيات الكردية.

ادبياً، عدّت هذه الأسماء أنفسها مسؤولة عن إعادة تشكيل اللغة الشعرية التي سادت القرون الخوالي وتجلّت في نتاجات المتقدمين من امثال الملا الجزيري وأحمدي خاني وفقي تيران، ليخوضوا غمار المجتمع ناظمين اشعارهم بلغة الجماهير والشارع.

وبالمستطاع تلخيص أبرز خصائص الشعر الكردي الحديث في عهد الاشتراكية ونمو الحس القومي بالنقاط التالية: البساطة وسهولة الاستيعاب  والتجديد والصراحة والايجاز وقرب أدواتهم اللغوية الى لغة الجماهير اليومية. والتأريخ الكوردي عن طريق الشعر ، و يبلغ هنا اسم الشاعر شيركوه بيكه س في قصيدة النثر درجة الكمال على صعيد الظاهر والمحتوى، كما كتب المسرحية الشعرية من أبرزها الكرسي الذي حاول فيه أنسنة الكرسي ساردا من خلاله رحلة الكورد والظلم الذي تعرضوا له آناء حكم البعث، إذ يصنع شيركوه من ندى رؤاه أنهارا توّلد في ذهن القارئ تلك السنابل الميتة في القرى النائية التي تنتظر المطر ليصنعوا منها خبزا لكل الفلاحين: 

نريد أن نوزع حبك كالخبز  \ نريد أن نحمل حبك كالطفل على الكتف
نريد أن نجعل حبك باقات كباقات الورد  \ نريد أن تقرأ حبك كالشعر
ها هم يحشون آذانهم بأقطان الظلام يبصقون في جبين الخبز والأطفال
و يفقأون عيون الزهور

ويقول في نص أخر يجسد فيه أعلى درجات الشاعرية في التقاط الصورة متجاوزا كل الصور الكلاسيكية ليبتكر صورة حداثية:

أمّي \ حين كبرتُ رأى معصمْ يدي اليسرى

الكثير من الساعات \ لكن قلبي لم يفرح مثلما كان يفرح

حينما كانت أمّي تعض معصمي الأيسر \ وأنا طفل

وتعمل بأسنانها ساعتها على يدي

ومن الملاحظ مما سبق أن الشعر الكوردي مرّ بعدة مراحل على صعيد المضمون الشعري من صوفي وقصصي إلى ملحمي ومسرحي إلى قومي وعلى صعيد الشكل الشعري من القصيدة العمودية والرباعيات إلى الغنائي و الشعر الحر والمرسل والتفعيلة وأخيرا النثر، 
طبعا وعلى مر العصور لم يكن الشعراء الكورد مغتربين عن ثقافة جيرانهم ومناطقهم كما امتازوا بالانفتاح على الآخر القومي أدبياً وثقافياً. فنجد أسماء كردية كبيرة كتبت بالعربية كالعائلة التيمورية في مصر ( محمد تيمور – محمود تيمور – عائشة التيمورية وأحمد تيمور ) والآن حفيدة محمد تيمور رشيدة تيمور التي أصدرت روايتها بالكردية بعنوان " ميفان" ، و محمد كرد علي، بلند الحيدري ، أحمد شوقي، جميل صدقي الزهاوي، معروف الرصافي، سليم بركات، يشار كمال بالتركية، فاضل رسول وأبو قاسم اللاهوتي أحد أعمدة الشعر الفارسي وحامد بدر خان بالكردية والعربية في قصيدة النثر الحديثة العربية، وعشرات الكُرد الآخرين تركوا تراثاً ثقافياً زاخراً بلغات قومياتنا الشرقية.

هوامش البحث : 

  • الأدب الكردي وبعض أبرز شخصياته، روني عباس، موقع جلجامش.
  • رحلة الشعر الكردي من بابا طاهر الى شيركو بيكه س، د. شاهو سعيد، موقع أسوواهب.
  • موجز تاريخ الأدب الكردي المعاصر، د. معروف خزنه دار ، هوشنك كرداغي دمشق 2008
  • الواقعية في الأدب الكردي د . عزالدين مصطفى رسول دار آراس - أربيل  2010. 
  • الأدب الشعبي عند الأكراد، مهوَش أحمد، مجلة القافلة.
  • أقدم شعراء الملحمة الكردية الملا أحمد الباتي، آلان محمد بيري، مركز النور.
  •  “تيريج” ثروةٌ للأدب الكردي، بيريفان بيار، وكالة أنباء هاوار.
  • بداية الأدب الكردي- اللغة الكردية وما يعترضها من المتاعب- تأليف: محمد أوزون، ت: دلاور زنكي، صوت كردستان.
  • فقي تيران، حيدر عمر ، تكنوبرس، بيروت 2012.
  • Diwan melaye ciziri –t-arif zerevan – nefel-stockhilm 2004 
  • الكرسي، شيركوه بيكه س، ت: سامي إبراهيم داوود، دار المدى دمشق، 2008.
  • الأدب الكردي المكتوب ج2، عبد الكريم عته، موقع مدارات الكرد.
  • شاعرات كرديات من القرن الخامس الهجري، أنقذتهم اليارسانية من النسيان، الاعداد والترجمة عن الكردية: قيس قره داغي، موقع جلجامش.
  • حياتي الكوردية، نور الدين زازا، ت: روني محمد دملي، دار ئاراس، أربيل، العراق 2001.


الكاتب

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).